ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم متى تنقطع معرفة العبد من الناس ؟ قال : إذا عاين .
فصل : قوله : إذا عاين يريد إذا عاين ملك الموت أو الملائكة و الله أعلم ، و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث الآخر : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر خرجه الترمذي أي عند الغرغرة و بلوغ الروح الحلقوم يعاين ما يصير إليه من رحمة أو هوان و لا تنفع حينئذ توبة و لا إيمان ، كما قال تعالى في محكم البيان فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا و قال تعالى و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن فالتوبة مبسوطة للعبد حتى يعاين قابض الأرواح ، و ذلك عند غرغرته بالروح ، و إنما يغرغر به إذا قطع الوتين . فشخص من الصدر إلى الحلقوم . فعندها المعاينة ، و عندها حضور الموت فاعلم ذلك . فيجب على الإنسان أن يتوب قبل المعاينة و الغرغرة . و هو معنى قوله تعالى : ثم يتوبون من قريب .
و قال ابن عباس و السدي : من قريب : قبل المرض و الموت .
و قال أبو مجلز و الضحاك و عكرمة و ابن زيد و غيرهم : قبل المعاينة للملائكة و السوق و أن يغلب المرء على نفسه . و لقد أحسن محمود الوراق حيث قال : قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات و قبل حبس الألسن
بادر به غلق النفوس فإنها ذخر و غنم للمنيب المحسن
قال علماؤنا ـ رحمهم الله ـ و إنما صحت منه التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق و يصح الندم و العزم على ترك الفعل . و قيل : المعنى : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . و المبادرة في الصحة أفضل و ألحق لأمله من العمل الصالح و البعد كل البعد الموت . و أما ما كان قبل الموت فهو قريب . عن الضحاك أيضاً .
و عن الحسن : لما هبط إبليس قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى و عزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه .
و التوبة فرض على المؤمنين باتفاق المسلمين لقوله تعالى : و توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون و قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً .
و لها شروط أربعة : الندم بالقلب ، و ترك المعصية في الحال ، و العزم على أن لا يعود إلى مثلها ، و أن يكون ذلك حياء من الله تعالى و خوفاً منه لا من غيره فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . و قد قيل : من شروطها : الاعتراف بالذنب و كثرة الإستغفار الذي يحل عقد الإصرار و يثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان . فأما من قال بلسانه : أستغفر الله و قلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار و صغيرته لا حقة بالكبائر .
و روي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا مقوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكباً على الظلم حريصاً عليه لا يقلع و البحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه و ذلك استهزاء منه و استخفاف . و هو ممن اتخذ آيات الله هزؤا و في التنزيل و لا تتخذوا آيات الله هزواً .
و روي عن علي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً قد فرغ من صلاته و قال : اللهم إني أستغفرك و أتوب إليك سريعاً فقال له : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين و توبتك تحتاج إلى توبة . قال يا أمير المؤمنين : و ما التوبة ؟ قال : إسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب ، الندامة و لتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم إلى أهلها ، و إئاب النفس في الطاعة كما أذابتها في المعصية ، و إذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، و أن تزين نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصية الله ، و البكاء بدل كل ضحك ضحكته .
و قال أبو بكر الوراق : التوبة أن تكون نصوحاً . و هو أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، و تضيق عليك نفسك كالثلاثة الذين خلفوا .
و قيل : التوبة النصوح هي رد المظالم و استحلال الخصوم و إدمان الطاعات .
و قيل : غير هذا ، و بالجملة فالذنوب التي يثاب منها إما كفر أو غيره ، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على سالف كفره و ليس مجرد الإيمان نفس التوبة ، و غير الكفر : إما حق الله و إما حق لغيره . فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك ، بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء ، كالصلاة و الصوم . و منها ما أضاف إليه كفارة كالحنث في الإيمان و غير ذلك . و أما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها فإن لم يوجدوا تصدق عنهم ، و من لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعساره فعفو الله مأمول و فضله مبذول . فكم ضمن من التبعات و بدل من السيئات بالحسنات . و عليه أن يكثر من الأعمال الصالحات و يستغفر لمن ظلمه من المؤمنين و المؤمنات فهذا الكلام في حقيقة التوبة .
و قد روي مرفوعاً في صفة التائب من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال و هو في جماعة من أصحابه أتدرون من التائب ؟ قالوا : اللهم لا . قال : إذا تاب العبد و لم يرض خصماؤه فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير لباسه فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير مجلسه فليس بتائب . و من تاب و لم يغير نفقته و زينته فليس بتائب ، و من تاب و لم يغير فراشه و وساده فليس بتائب ، ومن تاب و لم يوسع خلقه فليس بتائب ، و من تاب و لم يوسع قلبه و كفه فليس بتائب ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإذا تاب عن هذه الخصال فذلك تائب حقاً
قال العلماء : إرضاء الخصوم يكون بأن يرد عليهم ما غصبهم من مال أو خانهم أو غلهم أو اغتابهم أو خرق أعراضهم أو شتمهم أو سبهم فيرضيهم بما استطاع و يتحللهم من ذلك ، فإن انقرضوا فإن كان لهم قبله مال رده إلى الورثة ، و إن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم و يستغفر لهم بعد الموت و يدعو : اللهم عوض الذم و الغيبة لا خلاف في هذا ، و أما تغيير اللباس فهو أن يستبدل ما عليه من الحرام بالحلال . و إن كانت ثياب كبر و خيلاء استبدلها بأطمار متوسطة ، و تغيير المجلس : هو بأن يترك مجالس اللهو و اللعب و الجهال و الأحداث . و يجالس العلماء و مجالس الذكر و الفقراء و الصالحين و يتقرب إلى قلوبهم بالخدمة و بما يستطيع و يصافحهم . و تغيير الطعام بأن يأكل الحلال و بجانب ما كان من شبهة أو شهوة . و يغير أوقات أكله ، و لا يقصد اللذيذ من الأطعمة . و تغيير النفقة هو بترك الحرام و كسب الحلال ، و تغيير الزينة بترك التزين في الأثاث و البناء و اللباس و الطعام و الشراب . و تغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة و الغفلة و المعصية كما قال الله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع . و تغيير الخلق هو بأن ينقلب خلقه من الشدة إلى اللين و من الضيق إلى السعة و من الشكاسة إلى السماحة . و توسيع القلب يكون بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال ، و توسيع الكف بالسخاء و الإيثار بالعطاء . هكذا يبدل كل ما كان فيه كشرب الخمر بكسره و سقي اللبن و العسل و الزنا بكفالة الأرملة و اليتيمة و تجهيزهما و يكون مع ذلك نادماً على ما سلف منه و متحسراً على ما ضيع من عمره . فإذا كملت التوبة به على هذه الخصال التي ذكرنا و الشروط التي بينا تقبلها الله بكرمه و أنسى حافظيه و بقاع الأرض خطاياه و ذنوبه . قال الله تعالى : و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحاً ثم اهتدى .
و الأصل في هذه الجملة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي قتل مائة نفس ثم سأل : هل له من توبة ؟ فقال له العالم : و من يحول بينك و بينها ، انطلق إلى أرض بني فلان فإن بها ناساً صالحين يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، و لا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء .
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح و في مسند أبي داود الطيالسي : حدثنا زهير بن معاوية ، عن عبد الكريم الجزري ، عن زياد و ليس بابن أبي مريم ، عن عبد الله بن مغفل قال : كنت مع أبي و أنا إلى جنبه عند عبد الله بن مسعود فقال له أبي : أسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز و جل تاب الله عليه ؟ فقال : نعم سمعته يقول : الندم توبة .
و في صحيح مسلم و البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه .
و روى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر ثم قال : و الذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزيناً ليمين رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس و يصوم رمضان و يجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى أنها لتصفق . ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : فدل القرآن على أن في الذنوب كبائر و صغائر ، خلافاً لمن قال : كلها كبائر ، حسب ما بيناه في سورة النساء ، و أن الصغائر كاللمسة و النظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعاً بوعده الصدق و قوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب ، و هي إقامة الفرائض كما نص عليه الحديث . و مثله : ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلوات الخمس و الجمعة إلى الجمعة و رمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر على هذا جماعة أهل التأويل و جماعة الفقهاء و هو الصحيح في الباب . و أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة منها و الإقلاع عنها كما بينا ، و قد اختلف في تعيينها ليس هذا موضع ذكرها ، و سيأتي في القصاص . و في أبواب النار جملة منها إن شاء الله تعالى .