أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة : عذاب القبر و أنه ليس له حقيقة ، و احتجوا بأن قالوا : إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عمياً صماً يضربون الناس بفطاطيس من حديد و لا نجد فيه حيات و لا ثعابين و لا نيراناً و لا تنانين . و كذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب و لم يتغير ، و كيف يصح إقعاده و نحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله ، فكيف يجلس و يضرب و لا يتفرق ذلك ؟ و كيف يصح إقعاده و ما ذكرتموه من الفسحة ؟ و نحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقاً و نجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا ، فكيف يسعه و يسع الملائكة السائلين له ؟ و إنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني ، و إنها لا حقائق لها على موضوع اللغة .
و الجواب : أنا نؤمن بما ذكرناه . و الله أن يفعل ما يشاء من عقاب و نعيم . و يصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا . فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه ، ثم نضجعه و نرد الزئبق و كذلك يمكننا أن نعمق القبر و نوسعه حتى يقوم فيه قياماً فضلاً عن العقود . و كذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلاً عن سبعين ذراعاً ، و الرب سبحانه أبسط منا قدرة ، و أقوى منا قوة ، و أسرع فعلاً ، و أحصى منا حساباً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون و لا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته ، فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعاً فلا يمتنع أن يأتيه الملكان و يسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما ، و يجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما . و مثال ذلك : نائمان بيننا أحدهما ينعم و الآخر يعذب ، و لا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين ، ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه .
و قد قال بعض علمائنا : إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله : اطلاعه عليها و على أهلها . و أهلها مدركون له عن بعد من غير دخول و لا قرب . و يجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش و يجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا .
و يجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها .
و بالجملة : فأحوال المقابر و أهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا . و هذا مما لا خلاف فيه. و لولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئاً مما هنالك . فإن قالوا : كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله ، و نحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة و هو لا يسأل و لا يحيى و كذلك يشاهد الميت على سريره و هو لا يجيب سائلاً و لا يتحرك و من افترسه السباع ، و نهشه الطيور ، و تفرقت أجزاؤه في أجواف الطير ، و بطون الحيتان و حواصل الطيور ، و أقاصي التخوم ، و مدارج الرياح ، فكيف تجتمع أجزاؤه ؟ أم كيف تتألف أعضاؤه ؟ و كيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه ؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟ و الجواب عن هذا من وجوه أربعة : .
أحدها : أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و ليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك .
الثاني : ما ذكره القاضي لسان الأمة و هو : أن المدفونين في القبور يسألون . و الذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه و السلام لهم . و من أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام . و قد قال الله تعالى : في وصف الشياطين إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم .
الثالث : قال بعض العلماء : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب و نحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتاً . و كذلك صاحب السكتة و ندفنه على حسبان الموت ، و من تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه .
قلت : و يعيده كما كان . كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [ الحديث ] و فيه : [ فأمر الله البر فجمع ما فيه . وأمر البحر فجمع ما فيه . ثم قال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك . أو قال مخافتك ] خرحه البخاري و مسلم و في التنزيل فخذ أربعة من الطير الآية .
الرابع : قال أبو المعالي : المرضي عندنا : أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها و يوجه السؤال عليها . و ذلك غير مستحيل عقلاً . قال بعض علمائنا : و ليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى .