ذكر الله التوفي في كتابه مجملاً و مفصلاً :
فقال الله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، و قال : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ، و قال : توفته رسلنا و هم لا يفرطون ، و قال : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فهذا كله محمل ، و قد بينه رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه إن شاء تعالى ، و قال : و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ، و قال : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم ، و هذا مخصوص بمن قتل من الكفار يوم بدر باتفاق أهل التأويل ، فيما قاله بعض علمائنا ، و قد ذكر المهدوي و غيره في ذلك اختلافاً ، و أن الكفار حتى الآن يتوفون بالضرب و الهوان و الله أعلم .
و روى مسلم في حديث فيه طول قال أبو زميل : فحدثني ابن عباس ، قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ ، يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه و صوت الفارس يقول : أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قدم خطم أنفه و شق وجهه لضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثانية ، فقتلوا يومئذ سبعين و أسروا سبعين . و ذكر الحديث .
و قال تعالى : لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أي بالعذاب أخرجوا أنفسكم إلى قوله يستكبرون . و قد زادت السنة هذا النوع بياناً على ما يأتي .
فصل : إن قال قائل : كيف الجمع بين هذه الآي و كيف يقبض ملك الموت في زمن واحد أرواح من يموت بالمشرق و المغرب ؟ قيل له : اعلم أن التوفي مأخوذ من توفيت الدين و استوفيته إذا قبضته و لم يدع منه شيئاً ، فتارة يضاف إلى ملك الموت لمباشرته ذلك ، و تارة إلى أعوانه من الملائكة ، لأنهم قد يتولون ذلك أيضاً ، و تارة إلى الله تعالى و هو المتوفي على الحقيقة كما قال عز و جل الله يتوفى الأنفس حين موتها و قال : و هو الذي أحياكم ثم يميتكم و قال : الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما يفعل بأمره .
و قال الكلبي : يقبض ملك الموت الروح من الجسد ، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً ، و إلى ملائكة العذاب إن كان كافراً ، و هذا المعنى منصوص في حديث البراء ، و سيأتي .
و في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم إن ملك الموت ليهيب بالأروح كما يهيب أحدكم بفلوه أو فصيله ألا هلم ألا هلم ، يهيب : يدعو . يقال: أهاب الرجل بغنمه أي صاح بها لتقف أو لترجع ، و أهاب بالبعير .
قال طرفة يصف ناقته :
تريع إلى صوت المهيب و تتقي بذي خصل روعات أكلب ملبدي
تريع : معناه : تعود و ترجع .
و قال الشاعر :
طمعت بليلى إذ تريع و إنما تقطع أرقاب الرجال المطامع
و الخصل : أطراف الشجر المتدلية . و الروعات جمع روعة و هي الفزعة ، و أكلب الرجل إذا أكلبت إبله . و اتكلب شبيه بالجنون . و قال جميعه الجوهري .
و قال العتابي الكلابي :
أهابوا به فازداد بعد وصده عن القرب منهم ضوء برق و وابله
يعني نصل السهم .
فأخبر صلى الله عليه و سلم : أنه يدعو الأرواح التي يتوفاها الله و يقبضها .
و في الخبر أن ملك الموت جالس و بين يديه صحيفة يكتب فيها له ليلة النصف من شعبان ، و هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم من الأرزاق و الآجال في قفول بعض العلماء عكرمة و غيره . و الصحيح أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة القدر من شهر رمضان ، و هو قول قتادة و الحسن و مجاهد و غيرهم ، يدل عليه قوله تعالى : حم * و الكتاب المبين * إنا أنزلناه يعني القرآن في ليلة مباركة يعني ليلة القدر ، و هذا بين .
و قال ابن عباس : إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان و يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، و كان هذا جمعاً بين القولين و الله أعلم . فإذا انقضى عمر ذلك الشخص الذي حان قبض روحه ، سقطت ورقة من سدرة المنتهى التي فيها اسمه على اسمه في الصحيفة ، فعرف أن قدر فرغ أجله و انقطع أكله .
و في الخبر أن ملك الموت تحت العرش يسقط عليه صحائف من يموت من تحت العرش ، الصحف هنا : ورق السدرة . و الله أعلم .
و كما في الخبر قبله : فإذا نظر إلى الإنسان ، قد نفذ رزقه و انقطع أكله ، ألقى عليه سكرات الموت ، فغشيته كرباته ، و أدركته سكراته .
و في خبر الإسراء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : مررت على ملك آخر جالس على كرسي ، إذا جميع الدنيا و من فيها بين ركبتيه ، و بيده لوح مكتوب ينظر فيه ، و لا يلتفت عنه يميناً و لا شمالاً فقلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : هذا ملك الموت . قلت : يا ملك الموت كيف تقدر على قبض جميع أرواح من في الأرض برها و بحرها ؟ قال : ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي ، و جميع الخلائق بين عيني ، و يداي تبلغان المشرق و المغرب . فإذا نفذ أجل عبد نظرت إليه ، فإذا نظرت إليه عرف أعواني من الملائكة أنه مقبوض ، غدوا فبطشوا يعالجون نزع روحه ، فإذا بلغوا بالروح الحلقوم ، علمت ذلك فلم يخف علي شيء من أمره ، مددت يدي فأنزعه من جسده و ألى قبضه .
و في الخبر : أنه ينزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى ، و ملك يجذبها من قدمه اليسرى ، و ملك يجذبها من يده اليمنى ، و ملك يجذبها من يده اليسرى . ذكره أبو حامد .
و قال : و ربما كشف للميت عن الأمر الملكوتي قبل أن يغرغر ، فيعاين الملائكة على حقيقة عمله ، على ما يتحيزون إليه من عالمهم ، فإنه كان لسانه منطلقاً حدث بوجودهم ، و ربما أعاد على نفسه الحديث بما رأى ، و ظن أن ذلك من فعل الشيطان به ، فيسكت حين يعقل لسانه و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع ، و النفس تنسل انسلال القداة من السقا .
و الفاجر تسل روح كالسفود من الصوف المبلول . هكذا حكى صاحب الشرع عليه السلام ، و الميت يظن أن بطنه ملئت شوكاً ، كأنما نفسه تخرج من ثقب إبرة ، و كأن السماء انطبقت على الأرض و هو بينهما ، فإذا احتضرت نفسه إلى القلب ، مات لسانه عن النطق فما أحد ينطق ، و النفس مجموعة في صدره لسرين .
أحدهما : أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ، ألا ترى أن الإنسان إذ أصابته ضربته في الصدر بقي مدهوشاً ، فتارة لا يقدر على الكلام ، و كل مطعون يطعن يصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر من غير تصويت .
و أما السر الآخر : فلأن الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية فصار نفسه متغير الحالتين ، حال الارتفاع و البرودة ، لأنه فقد الحرارة ، فعند هذا الحين تختلف أحوال الموتى ، فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سما من نار فتفر الروح ، و تفيض خارجة ، فيأخذ الملك في يده و هي ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر الجرادة شخصاً إنسانياً ، ثم يناولها الزبانية .
و من الموتى من تجذب نفسه رويداً حتى تنحصر في الحنجرة و ليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : لم أجد لهذه الحربة في الأخبار ذكر إلا ما ذكره أبو نعيم الحافظ .
قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمود قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا سلمة بن شبيب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت عليه السلام حربة تبلغ ما بين المشرق و المغرب ، فإذا انقضى أجل عبد من الدنيا ، ضرب رأسه بتلك الحربة و قال : الآن يزار بك عسكر الأموات .
و روى سليمان بن مهير الكلابي قال : حضرت مالك بن أنس و أتاه رجل فسأله : يا أبا عبد الله ، البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها ؟ فأطرق مالك طويلاً ثم قال : لها نفس ؟ قال : نعم ، قال : ملك الموت يقبض أرواحها الله يتوفى الأنفس حين موتها ذكره الخطيب أبو بكر رحمه الله .