لما عرف الصالحون قدر الحياة أماتوا فيها الهوى فعاشوا انتهبوا بأكف الجد ما قد نثرته أيدي البطالين ثم تخيلوا القيامة فاحتقروا الأعمال فماتت قلوبهم بالمخافة فاشتاقت إليهم الجوامد فالجذع يحن إلى الرسول والجنة تشتاق إلى " علي ".
كم شخص أشخصه الشوق إلى الحج يكاد مودع المواثيق قبل تقبيله يقبله فلما قضى الناسك المناسك ثم رجع بقي سهم الشوق إليه في قلب منى خواطرهم تراقب حدود الشرع وقلوبهم وَقَفَ الهَوى بي حَيثُ أَنتَ فَلَيس لي مُتَقَدّمٌ عَنهُ وَلا مُتَأَخّرُ أنفوا من مزاحمة الخلق في أسواق الهوى وقوي شوقهم فلم يحتملوا حصر الدنيا فخرجوا إلى فضاء العز في صحراء التقوى وضربوا مخيم المجد في ساحة الهدى وتخيروا شواطىء أنهار الصدق فشرعوا فيها مشارع البكاء وانفردوا بقلقهم فساعدهم ريم الفلا وترنمت بلابل بلبالهم في ظلام الدجى فلو رأيت حزينهم يتقلب على جمر الغضا.
فيا محصورا عنهم في حبس الجهل والمنى إن خرجت من سجنك لترويح شجنك من غم البلاء عرج بذلك الوادي.
تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود فجمعوا الرحل قبل الرحيل وشمروا في سواء السبيل فالناس يخوضون في وحل الإكتساب وهم في ظل القناعة ومرض الهوى يستغيثون في مارستان البلاء وهم في قصور السلامة وكسالى البطالة على فراش التواني وهم في حلبات السباق (يَرجونَ تِجارَةً لَن تَبور) يجرون خيل العزائم في ميادين المبادرة ويضربون الدنيا بصولجان الأنفة فما مضت إلا ايام حتى عبروا القنطرة وقد سلموا من المكس.
غناهم في قلوبهم (سيماهُم في وُجوهِهِم) ما ضرهم ما عزهم أعقبهم ما سرهم هان عليهم طول الطريق لعلمهم بشرف المقصد وحلت لهم مرارات البلاء لتعجيل السلامة فيابشراهم يوم (هَذا يُومُكُم).
سَخِطنا عِندَما جَنَتِ اللَيالي فَما زالَت بِنا حَتى رَضينا سِعدنا بِالوِصالِ وَكَم سُقينا بِكاساتِ النَعيمِ وَكَم شُقينا فَمَن لَم يَحيَ بَعدَ المَوتِ يَوماً فَإِنّا بَعدَ مَيتَتِنا حَيِينا